بقايا الأمل في ظلال الفقر: حكاية التشرد والكفاح

 

بقايا الأمل في ظلال الفقر: حكاية التشرد والكفاح
قصص قصيرة

بقايا الأمل في ظلال الفقر: حكاية التشرد والكفاح

يقدم هذا النص قصة مؤثرة لطفل صغير يعيش في أحضان الفقر والتشرد، بعد أن سلبه الزمن أحلام طفولته البريئة، وزج به في عالم الشوارع القاسي. من خلال حياته في حي صفيحي، يعكس النص بمهارة التناقضات الاجتماعية والواقع المرير الذي يعاني منه ملايين الأط فال في الأحياء الفقيرة. نرى في هذه الحكاية مزيجًا من الألم والأمل، حيث يكافح الطفل للبقاء على قيد الحياة وسط الجوع والتهميش، لكنه يجد في حضن والدته مأوى عاطفياً ودافعاً للصمود.

تتشابك في النص مفارقات الحياة القاسية التي يعيشها الطفل بين رائحة القمامة وأحلامه البسيطة، ليبرز الكفاح اليو مي للبقاء والتغلب على تحديات الفقر والتشرد. على الرغم من صعوبة الظروف، يبقى الأمل في الأفق، يتجلى في قوة الأم التي لا تزال تحارب من أجل توفير القليل ل طفلها، وفي قدرة الطفل على التكيف مع عالمه الصعب من خلال الصداقات الغريبة التي يعقدها وحتى أحلامه الساذجة.

فلنغص في اعماق القصة وأتمنى أن تروقكم

في سن مبكرة ،استله التشر د من حضن عالمه الطفولي الحالم. تلقفه حضن الشارع القاسي لأسباب لا يستوعبها خلده الغض الطري بعد ..لحسن حظه لايزال ثمة حائل متين بينه وبين التشرد الكلي والغربة في الوطن ..لا يزال  حضن أمه مفتوحا على آخره...تلك التي بكثير من الجهد والتضحية استطاعت امتلاك بيت، وأي بيت؟عشة من قش في حي صفيحي من احياءالوطن.

رصعت جدرانها بصور من مجلات حوت أجزاء من مؤخرات وصدور بنات الهوى,التقطها الصبي من مكبات النفايات المجاورة,  معضمها استعملت في أحسن الأحوال لمسح غائط عابري السبيل ومرتادي المزبلة الرئيسية للحي ..كلما تأمل جدران البيت لاحظ مفارقة غريبة ...الى جانب بنات هوى لباسهن من حرير ،غدين شهدا وشربن نبيذا.. رص صور أطفال تجمعه بهم قواسم من صنع البشر..(جوع ،عري وتهميش..)رسمت أوساخ المزابل على وجوههم كل صور الحرمان ..
 فراش البيت ،حصير..سقفه قش ووريقات متهتكة من قصدير .صيفه يحرق وشتاوه يغرق ..غطاؤه  حضن أمه ... 
يلوك لسانها كلمات على نغمات  أسطوانة مشروخة من كثرة الرد 
-لا تأكل الحرة من ثديها تخيط الصبر ثوبا ... 
تنتعل الأمل 
  تشكو الجوع للرب 
خالق الشمس وزحل  
اليوم جوع ودمع  
وغدا … 
يصدر  أمر لهاته الربوع  
فلا جوع ولا دموع...
خرج وقد جذبه  رونق الحياة وصخبها ,يتسكع عبر الأزقة ,لا يحدق بوجوه المارة.. يتبع شما أدمن رائحة الطعام  يجره خلفه إلى أكثر الأماكن نبضا بالحياة,وأكثرها عرضا لأصناف الطعام هناك قرب مطاعم  يطرد منها كما الكلاب التائهة,تعود يداه صفرا, نصيبه منها  رائحة الطعام  العالقة بملابسه الرثة.
 تجره الخطى إلى مزبلة الحي قبيل الغروب ,فيجد كلبا قد أمسك بكيس من البلاستيك بين أنيابه يحمل حجرا فيهشه عن الغنيمة المجهولة ...وأخيرا يستسلم الكلب أمام تهديده فيترك الكيس يفتحه ,فإذا  فيه هيكل دجاجة وشيء من خبز .
يعود إلى البيت مسرعا يغني سعادته:
-       أحمل تحت إبطي عشاء   
   أحمل تحت إبطي عشاء 
ما همني  فولا كان أو شواء 
 آه.. فولا أو شواء,   
لن أنام اليوم قبل العشاء 
أحضن جوعا وبكاء.  
 لا جوعا ولا بكاء   
     لا لالا لا لالا لا  لالالالالا
يدفع الباب الخشبي ذو الساقطة المكسورة ,يبادل أمه بسمة ذابلة  ينبطح على الحصير البلاستيكي المزركش يتأمله بينما  هي تفتح  الكيس وتداعبه كالمعتاد...
- ما هذا يا رجل؟
-قال المثل : كل ولا تسأل وصلي و اسألْ...
نام  بعد أن سرى دفأ اللقيمات في بطنه,رأى أحلاما جميلة ...دخل منزلا فخما توسطت حديقته الشاسعة و المعشوشبة مائدة على مد البصر,حوت كل أصناف اللحوم والحلويات.وبينما يتأهب لتناول قطعة شهية من قالب حلوى ,أمسكت يده عجوزا شمطاء.. نهرته مزمجرة..
-أيها المتشرد من سمح لك بدخول منزلي ؟ ستفسد حفل الزفاف .
بقي واقفا كرجل صغير في معطف والده الذي يتدلى حذو ساقيه النحيفتين بينما أطلت دمعات على خجل من عيونه الغائرة وهو يهم بالرحيل  , لعابه لا يرحمه من أثر الاشتهاء...استدار ..استرق نظرة.. 
-السيدة قد غادرت المائدة ,سأعود علني أفلت بلقمة .. 
 تسارعت خطواته المثقلة حسرة ,التقيا وجها لوجه ويداها تصفعانه بسطل ماء بارد ..
أفاق من حلمه على سيل مياه يجرفه السقف المرصع بالثقوب.
كان الطفل المتشرد قد جمع كل علامات التشرد ما عدا سلوكه فهو سلوك طفل مهذب في سنه الحادية عشرة تفتقت لديه موهبة الشعر والحكاية .فكان يأوي إلى ركن من أركان المحطة الطرقية ويدندن وهو يهجو الفقر في هدوء :
تبا للفقر
 .أحد ما فيه أنيابه.
وأنتن ما فيه ريحه
وأخشن ما فيه ثوبه
أناني الطبع
 .لا يشارك غنائمه أحد
حسود ,ما لمس العز في قوم إلا تربص بهم.
صبور لا يمل الإنتظار.
جشع ,لا يشبع من مورد رزق واحد
يعشق بني آدم لكنه منبوذ من الكل مثلي.
هو الإبن غير الشرعي للعرب والعجم .الكل تبرأ منه ولكن يقبله رغما عنه
يتربص بالكل, ضميره مستتر لا يساوره ندم.
حريته مد البصر
متهم من غير حاجة لإثبات إدانته
لكنه حر طليق
يعيث فسادا في كل بحر وبر
أكره طعمه المر
لم أكن أعرفه .
لكن الزمن أبرم بيني وبينه موعدا
حضر الفقر في الموعد
بينما جئت متأخرا أتردد
ولاني الزمن ظهره ,وفي الأجواء لونه تبدد.
تركني معه وجها لوجه
فأحكم بي قبضته
وهل يفيد بعد ذلك التردد؟
كان الطفل يدندن وبصره قد شق موطأ قدمه .وكانت بين الحين والآخر تسقط دريهمات فيلتقطها .مرت ساعات طوال وهو يلوك نفس العبارات حتى جف  فمه وأخذ الجوع منه كل مأخذ .حدثته نفسه بمغادرة المكان من أجل شراء قطعة خبز وشطيرة جبن يسكت بها عويل بطنه ثم يعود إلى مكانه .فهو اُستبشر خيرا بجلوسه عند المحطة.فزوارها كرماء.

جمع بسرعة آخر دريهمات تساقطت أمامه.وهم برفع رأسه فإذا به يشعر بيد من حديد تمسك بمعطفه حذو قفاه وتديره بقوة .كان متشردا ضخم البنية. رفعه إلى الأعلى حتى أصبحا وجها لوجه ،فشخص بصره في وجه بشع .رسم عليه التشرد لوحة فنية عشوائية.
  
صرخ من هول المشهد فأفلته، فإذا به يسقط أرضا يتألم. كان المتشرد الضخم يهتم بما تمسكه يد الصبي .فقال في لهجة عنيفة :
-أيها الصبي ,أفرغ محتوى يدك في كفي وإلا كسرت وجهك، هيا بسرعة .

لم يجد الصبي بدا من الإمتثال للأوامر وهو بين ألم وبكاء.
زمجر الرجل في وجهه قائلا :
-إسمعني جيدا ، المحطة بأكملها تحت حمايتي، وكل من دخلها وجب عليه الدفع لي وإلا هشمت أضلعه ، مفهوم؟
خرج الطفل من المحطة يجر ذيول الخيبة والجوع والألم .وقرر عدم العودة إليها من جديد.

عاد إلى البيت جائعا بعد عناء يوم طويل ، لم تجد الأم بدا من طبخ أكلة الخبز اليابس ، خبز يابس من جني المزابل والطرقات، في طنجرة رسم عليها الصدأ لوحة الحرمان.كانت تحركها بعود من قصب وتتمنى لو أنه نام حتى لا يأكل تلك الوجبة .وما أن تتأكد من نومه حتى تسارع إلى الخارج فتصب محتوى الطنجرة في زقاق خلف البيت .
تأوي إلى الفراش تحضنه وتسلم جسدها للأرض .هي لا تنام ولكنها تتظاهر بذلك لكي لايبقى اُبنها مستيقظا فيطالبها بالأكل.كانت تشعر به يتقلب في فراشه ويصدر أنينا هو أنين الجوع والبرد والتعب.

أفاقت في الصباح الباكر ، وخرجت خلسة حتى لا يراها الطفل.طرقت أحد الأبواب فأعطوها كسرة خبز حافية .أتت خادمة تمسك بها بين السبابة والإبهام وقالت :
-أوف كم أصبح عددكم كبير أيها المتسولون .
وصكت الباب في وجهها بسرعة حتى لا تطلب شيئا آخر.
قالت الأم للخادمة 
-أيتها الخادمة
، إنك  لست أفضل حالا مني. ففيم تأففك ؟
عادت فرحة وجلست قربه كانت تداعب شعره وتقول له : ستفطر اليوم بخبز نقي يا صغيري.
يجلس الطفل ويقول 
-أنى لك هذا يا ام الطفل?
-هل أصبحت سارقة ؟
الأم تجيبه 
-لا والله يا ولدي .أنا فقط أصبحت متسولة.
الطفل 
-عديني يا أمي بألا تكرري الأمر مرة أخرى 
، أنا هو رجل البيت من الآن فصاعدا.
خرج من البيت في اُتجاه مزبلة الحي 
، تأملها فلاحظ أن أكثر المخلوقات اُرتيادا لها :الفئران والقطط والكلاب والمتشردين أمثاله.فقرر مصاحبة كلب فناداه 
-أيها الكلب
، تعال إلى هنا.أنت كلب مطيع . لا..لا.ت.. لا... تلعق فمي ياعق ياعق..ع .ع .اسمع سنصبح أصدقاء شرط أن نتقاسم ما تصطاده من أكياس محكمة الإغلاق اُتفقنا؟

أصبحا صديقين وفيين لمدة طويلة .يلعبان معا ويتقاسمان الأكل ويصاحبه إلى البيت ليحرسه وأمه .وفي يوم من الأيام اُستفزه أحد المارة فعضه .وحجزته المصالح البيطرية في اُنتظار إعدامه.
اُعتراه حزن شديد لفراق صديقه الوفي.وعاد من جديد لمزبلة الحي.إلا أنه أحس بغربة بين مرتاديها لغياب الكلب فقرر عدم العودة إليها .وبينما هو في طريق عودته إلى البيت وجد شرذمة من الناس تتحلق حول رجل صحبة قرد صغير يجلس أمامه متشرد يقلب شعره الكث يتصيد منه القمل بينما هو  يلتهم حبات موز وذرة جاد بها المارة على القرد لقاء لحظات فرجة .
تقدم  خطوات ,طلب من صاحب القرد السماح له بالعمل معه لقاء اُقتسام بعض ما يرميه المارة للقرد فقبل...




تعليقات