![]() |
قصص قصيرة |
حوار فلسفي بين الإنسان والحيوان: رمزية الواقع والتحفيز في الحياة
صباحاته والمساءات كلها متشابهة.. في القرّ كما في الحر، تجده على أهبة الاستعداد لتنفيذ الأوامر.
عجبتُ كيف لا يأبه لأكوام الروث وروائح البول من حوله.. ألا ينتابه صداع نصفي؟ ألا يصيب عينيه رمد؟ والفوضى من حوله، ألا تحرك منه ساكناً؟ حتى رياح الغضب وحساسية الربيع.. لم تدغدغ أنفه أو توغل صدره؟ أراه لا يتقزز ولا ينتابه الغثيان من منظر الجرحى والحرقى والهدمى.
أتراه دمعت عيناه
يوم وجد مُطلق شرارة الربيع العربي تحرّره في عود ثقاب وقارورة بنزين؟
أتراه قرأ حريفات من قاموس البوعزيزي للحرية؟ أم تراه يرى ويسمع كما نرى ونسمع ويركب جناح التجاهل والتغابي، مغنياً خارج السرب؟
ذات فضول، تقدمت نحوه في قيظ ظهيرة شهر أغسطس. جلست القرفصاء في الظل بينما ظل يواجه القدر المحتوم في جَلَدٍ. تأملته فإذا به يملك طريقة غريبة في الابتسام.. لا يشبه في ذلك أحداً من الأنام.
قلت: "أعلم أنني لست بأفضل حال منك، رغم أني قد أنام على فراش وثير ملمسه من حرير، بينما تنام على كومة قش أو ربوة طين أينما اتفق ومتى اتفق.. أبشّرك أني سأشتريك. احمد الله، فمالكك واحد ورازقك رب كريم.. أرأيت إن كنت بشراً تحيط رقبتك حبال الولاءات التي تستصغرك وتستعبدك إلى أن يختلط عليك الأمر: أأنت حمار أم بشر؟"
نظر إليّ كما لو أنه فهم قصدي، أرخى أذنيه وطوّح برأسه يميناً وشمالاً.
قلت: "مذ كنت صغيراً لا أنفك أتساءل: لمَ تحمل اسماً بشعاً كهذا؟ لمَ أنت دوماً كائن حيث النصب والخنوع والخضوع؟ ألا تعترض أبداً؟"
رفع هامته واستوى واقفاً، ولّاني ظهره.. مشى خطوات وهو يلتفت حتى انتابني إحساس غريب.. حسبته يهزأ لقولي.. أنا الذي أهمّ بالاعتراض عن أمور ذات بال، حتى إن استقرت كلماتي على طرف لساني أخنس وأنكس أعلامي.
خاطبته: "توقف يا صاحبي، لا تغضب، فليس الغضب دوماً ابن الآخرين. كلنا تجرعنا مرارة المخاض ساعة ولادة الغضب. أعلم أنك أفضل حالاً من كثير من البشر.. يعمل أحدهم، يكدّ ويجتهد لعله يحوز إعجاب رب العمل ليضمن مورد رزق قار، ومتى احتجّ، حجّ إلى بيت البطالة واعتمر، وظل ينتظر عطف رب العمل باقي الدهر..."
"أنت حر طليق، لا تأبه لعقارب الساعة من ليل أو نهار، لست مسؤولاً على الإطلاق.. لا فواتير ماء وكهرباء وكراء ولا كبش عيد أو مستلزمات دخول مدرسي. قد لا يكون لما أقول معنى بالنسبة إليك.. وقد لا تفقه شيئاً مما أقول، ولا ألومك، فأنت مجرد (حمار)، أو كما ينادونك.. هذا اسمك وليس قدحاً فيك. ولو لم يكن اسمك، لسعت جمعيات حماية حقوق الحيوان إلى رفع دعوى لمقاضاتي ومقاضاة كل من يطلقون عليك هذا الاسم بدعوى الإساءة المعنوية لشخصك."
"أرجو أن تكون هذه الدردشة قد خففت عنك بعض ما تجد من حزن. أعلم أنك ألفت ضيعة السيد فلان بن علان، لكن دوام الحال من المحال.
اليوم ستصبح واحداً من بهائمي، يبدو أنك من الفصيلة التي تألف وتؤلف. هيا الآن، لننطلق.. أرجو أن تمهلني قليلاً من الوقت، فأنا لم أمتطِ حماراً منذ سن الطفولة.
آه، كم هي جميلة تلك الفترة من العمر! كان حمار عمتي يكرهني، فكلما قربت منه صوب إلى صدري قوائمه فأرداني طريحاً."
"هيا انطلق الآن.. ما لي أراك لا تبرح مكانك؟ هل من خطب؟ راَّ.. راَّ.. أعصيان من أول يوم يا صاحبي؟
آه، كم تعبت من الدفع والجر والتحايل على هذا الحيوان لينطلق.. ربما عليّ أن أستعين بأحدهم لحل المعضلة."
قال قائل منهم متهكماً: "أين أنثاه؟ اشترت الذكر دون الأنثى!"
وقال آخر: "سوطاً مبرحاً يغنيك عن الدفع والجر."
قال الثالث: "ههه، لا تشتري الحمار إلا والعصا معه..."
لكن الحمار يقاوم كل الحلول.. يطوي قوائمه الأربع ويسلّم جسده للثرى.
حار فكري، وما عدت أدري ماذا أصنع.. أأتركه مكانه وأهرع إلى من ابتعته منه طالباً النجدة أم أصرف النظر عنه نهائياً وأعود إلى البيت بخفّي حنين؟
همهمت: "صدق الله العظيم إذ سماك حماراً.. أستغفر الله. وما أدراني أن الله سماك حماراً لأنك مخلوق غير ذكي أو ذليل أو ما شابه من المسميات المشينة؟"
أصابني التعب والغضب، فلم أجد بداً من مجاراته إلى حين. جلست قربه، صرت مهزلة للراجلين والراكبين. امتص جلوسي قربه غضبي حينما رأيته مطأطئاً رأسه كإنسان يحمل هموم الكون على كاهله.
مرّ أحدهم يمتطي حماراً في نفس اتجاهي.. رأيت عجباً. نهض الحمار في لمح البصر، مصدراً نهيقاً زلزل مسامعي، ثم انطلق.. تبعته أجري. شاَّ.. شاَّ.. شاَّ.
اعتليت ظهره، ظل يمشي سريعاً. شارفت على الديار، أمسكت لجامه لتغيير المسار فرفض.. ظل يتبع الحمار الذي أمامه.. تبا لك من حمار، أنت مزاجي الطبع.
فجأة توقف الحمار الذي أمامي، وتوقف حماري أيضاً. ألقيت السلام على صاحبه، ترجلت وخليت اللجام، فرأيت عجباً! كانت تلكم حمارة، وليست حماراً. ظلا يركضان ويقفزان ويتشابكان الأعناق. عجبنا لصنيعهما أيما عجب!
عدت أدراجي، وخلال المسير كنت ألمس في حماري شيئاً من المقاومة.. مرة يتوقف، وأخرى يحاول تغيير الاتجاه. أخذت أحدثه كما لو أني أحدث صديقاً حقيقياً.
"يا صاحبي، معذرة لكوني لم أفهم قصدك، فأنت وباقي الحيوانات أمم أمثالنا. تحتاجون إلى تحفيزات.. أنت مثلاً، كانت حمارة الضيعة المجاورة حافزاً لك للمسير."
حينها فقط، حدثتني نفسي.. لو علم المنظرون ما للتحفيز من أثر سحري على الفرد والمجتمع لوصفوه جرعات، ولما كان لتلك الجرعات من آثار جانبية أبداً.. فأقل ما أصفه به هو أنه وسيلة لإقالة المواطن من عثرة الفساد والرشوة.
وعدت حماري بحمارة تؤنس وحدته بعد موسم الحصاد.. تأملت حالي وأفضيت لصاحبي بمتمنياتي.. ماذا لو أن وزارة الفلاحة منحتني تحفيزات، كإسقاط ديوني للسنة الفارطة؟ لقد قسم الجفاف ظهري. منح تعاونيتي جراراً ومعدات للحرث وآلة حصاد... فالأرض كنز لن يفتح أبوابه إلا بتعويذة وزارة الفلاحة.
ها قد وصلنا.. هيا يا صاحبي، استعد لدخول الحظيرة.